Sunday, December 18, 2016

عن الشيوعيين التافهين ضيقي الأفق أو كما وصفهم لينين

عن الشيوعيين التافهين ضيقي الأفق أو كما وصفهم لينين


مدخل:
إما أنهم منافقون أو حمقى لا يعرفون شيئا على الإطلاق أو على أقل تقدير _ كما وصفهم فلادمير لينين _ " تافهون ضيقو الأفق" . هذا كان انطباعي عن الشيوعيين السودانيين بعد قراءتي الأولى قبل سنين لكتاب لينين ( الدولة و الثورة).

ردهة النص:
"حيال هذا الوضع، حيال انتشار تشويه الماركسية انتشارا منقطع النظير، يتلخص واجبنا قبل كل شيء في: بعث تعاليم ماركس الحقيقية بشأن الدولة." وإن لم تكن هذه هي العبارة الأولى في كتابه ( الدولة والثورة ) ولكنها تظل العبارة الأولى في سرد أفكار لينين في كتابه المذكور الذي كما تقول العبارة السابقة هدفه هو بعث تعاليم ماركس الحقيقية بشأن الدولة ولتضعوا تحت كلمة " الحقيقية " هذه ألف خط. في هذا الكتاب _الذي لسبب مجهول كان في بيتنا قبل سنين طويلة والذي حينما قرأته أصابتني صدمة للفرق بين ما كنت أعرفه عن الشيوعية من لسان الشيوعيين وبين ما عرفته عن الشيوعية من لسان لينين نفسه _ يبدو كأنما لينين كان يخاطب شيوعيي اليوم وقد كال لهم من الشتائم قدرا تصطك منه آذان الأصم, فلا تكاد تخلو صفحة من أوصاف على غرار " صغار البرجوازيين , التافهين , الضيقي الأفق " حتى لتظن أنه يتحدث عن رأسمالي في بريطانيا بيد أنه حقا يعني كما قال " جميع الاشتراكيين الثوريين والمناشفة .. و أولئك اللذين يستندون الى ماركس باستلطاف " , حتى زملاءه في الاتحاد السوفيتي قال عنهم : " والموقف الذي يقفه من الدولة الاشتراكيين-الثوريين والمناشفة عندنا، هو دليل من أوضح الأدلة على أنهم ليسوا باشتراكيين قط ( الأمر الذي كنا نحن البلاشفة نبرهنه على الدوام) ، بل هم ديمقراطيون برجوازيون صغار ذوو عبارات تكاد تكون اشتراكية." .
ولكن ما هو الموقف الذي كان يقفه هؤلاء التعساء من الدولة ليستحقوا كل هذا التقريع ؟ إنه نفس الموقف الذي يقفه شيوعيو اليوم في كل العالم من الدولة , الموقف الذي يقفه شيوعيو السودان من الدولة . كل هؤلاء قال فيهم لينين ما لم يقله مالك في الخمر.
ولكن _بحق الله _ ما هو هذا الموقف من الدولة ؟؟؟... حسنا, إن كنت ترى أن الدولة مؤسسة ضرورية في كل مجتمع فأنت إذن لست شيوعي من أساسه برأي لينين, فالدولة في الفكرة الماركسية اللينية هي ليست فحسب شيئا غير ذي فائدة ولا يتفق و الفكر الشيوعي بل هي محض غلاف سياسي للرأسمالية على حد تعبيره, و لن تكون لها ضرورة في المجتمع الشيوعي وقد اقتبس هو نفسه من رسول الشيوعية ماركس الذي قال " ... في مجرى التطور ستحل الطبقة العاملة محل المجتمع البرجوازي القديم رابطة لا مكان فيها للطبقات وتضادها ولن تكون ثمة أي سلطة سياسية بمعنى الكلمة الخاص، لأن السلطة السياسية بالذات هي الإفصاح الرسمي عن تضاد الطبقات في قلب المجتمع البرجوازي " . ورغم وضوح عبارة ماركس فإن لينين قد أسهب في التشديد على فكرة أن المجتمع ليس بحاجة الى أي سلطة سياسية.
هذا فيما يخص فكرة الدولة من أساسه , و قبل الدخول الى التطبيق العملي لهذه الفكرة والتناقض بينها وبين واقع أن فلادمير لينين نفسه كان " رئيس دولة أو عدة دول . نسأل : هل يرى الشيوعيين اليوم في العام 2016 أنه ربما يأتي مجتمع ليس بحاجة الى سلطة سياسية بأي حال من الأحوال ؟ لو كانت الإجابة " لا " فأنت لست شيوعي كما وصفك لينين وأنت أيضا يا أعزك الله ( برجوازي صغير وتافه و ضيق الأفق و تفكيرك سقيم و هزيل و عاجز و انتهازي وتشوه الماركسية ) و أكرر أن هذه ليست أوصافي الخاصة ولكنها أوصاف لينين نفسه والمبثوثة في أغلب صفحات كتابه الصغير. أما إن كانت إجابتك نعم, أي انك تظن حقا أنه يمكن لمجتمع في القرن الحادي والعشرين أن يعيش بلا سلطة سياسية فلقد تجنبت الشتائم الأنفة مؤقتا حتى نعرف رأيك في كيفية تحقيق هذا الأمر.
ولكن تعلمون أن لينين نفسه كان رئيس مجلس السوفييت الأعلى وهو السلطة السياسية الأعلى للاتحاد السوفيتي في ذلك الوقت, ما الذي يعنيه هذا ؟ فلاديمير لينين أذكى من أن يناقض نفسه بهذه الفجاجة ولكن فكرته تقول أن الدولة بشكلها الحالي في كل دول العالم هي " قوة خاصة لقمع البروليتاريا على يد البرجوازية, أداة لقمع ملايين الشغيلة من قبل حفنات من الأغنياء" وهذا الشكل من الدولة لا سبيل الى زواله الا عبر ثورة عنيفة _ تكررت كلمة ثورة عنيفة في هذا الكتاب الصغير أكثر من عشر مرات _ , وقد شدد لينين في عدة مواقع بالقول أن الدولة بشكلها الراهن لا يمكن أن تتغير عن طريق الديمقراطية أو أي وسيلة أخرى بخلاف ثورة عنيفة تسحق البرجوازية تماما على حد تعبيره, ثم بعد ذلك تأتي دولة البروليتاريا التي هي أيضا أداة لقمع البرجوازية على يد البروليتاريا ( دكتاتورية البروليتاريا ) , وهذه الدولة الجديدة أيضا مصيرها الى زوال ولكن ليس عن طريق ثورة عنيفة هذه المرة وانما عن طريق ما اسماه (الاضمحلال) , فالدولة وفقا للينين وانجلز وماركس هي وسيلة لحل التناقض بين الطبقات في المجتمع وحينما تسيطر طبقة البروليتاريا على الدولة فإن بذلك تقضي على نفسها بوصفها بروليتاريا وبالتالي تزول كل الطبقات ولا تعود هنالك حوجة الى دولة فتضمحل شيئا فشيئا . هذه هي فكرة لينين بكل وضوح وبدون لبس أو زيادة أو نقصان. فالرجل _ خلافا لشيوعيي اليوم _ أفكاره واضحة بالنسبة له ويستطيع طرحها بصورة مبسطة ومفهومة للجميع.
نعود إذن الى موقف السادة الشيوعيين في يومنا هذا _ لاسيما أولئك اللذين اجتازوا الاختبار الأول أعلاه حينما أجابوا بنعم _ , فهم حتى لو اتفقوا مع لينين في أن الدولة الآن بشكلها الحاضر في كل العالم ما هي إلا أداة لقمع البروليتاريا , فكيف يريدون لهذه الدولة البرجوازية أن تزول ؟ عن طريق الانتخابات ؟ هل هم مقتنعون بالديمقراطية والانتخابات ؟ _هذا هو الاختبار الثاني_ لو كانت الإجابة نعم , فشتائم لينين السابقة تنالهم فلينين لا يرى في حق الانتخاب إلا أنه مجرد أداة لسيادة البرجوازية, وهو رأي أنجلز نفسه , وقد كتب لينين " إن الديمقراطيين صغار البورجوازيين، أشباه الاشتراكيين-الثوريين والمناشفة في بلادنا ، وكذلك أشقاءهم من جميع الاشتراكيين الشوفينيين في أوربا الغربية ، ينتظرون من حق الانتخاب العام أكثر من ذلك بالضبط. إنهم يؤمنون هم أنفسهم ويوهمون الشعب بفكرة مغلوطة مفادها أن حق الانتخاب العام في الدولة الراهنة يستطيع أن يظهر في الواقع إرادة أكثرية الشغيلة وأن يضمن تطبيقها" , و هذا الرأي قد يكون رأي الكثير من الشيوعيين طبعا ولكنهم مع ذلك لا يستطيعون مجاراة لينين في الدعوة الى ثروة تسحق كل البرجوازية , فهم يشاركون في الانتخابات بل وحتى ينادون بالديمقراطية على أمل أن تعطي البروليتاريا _ متمثلة فيهم _ حق السيطرة على وسائل الإنتاج , وهو ما قال لينين أنه مستحيل , فالدولة البرجوازية لا تزول أبدا بالديمقراطية وحق الانتخاب , فقط الثورة العنيفة التي تسحق البرجوازية لصالح العمال الفقراء هي الحل. وهو يقول في " حتى في الجمهورية البرجوازية الأكثر ديمقراطية فإن عبودية العمل المأجور هي نصيب الشعب ". هذه الديمقراطية الموجودة مثلا في السويد وسويسرا نظل جمهوريات برجوازية قال عنها لينين : " إن الاستعاضة عن الدولة البرجوازية بدولة بروليتارية لا يمكن بدون ثورة عنيفة " . لا مجال أبدا للحديث عن تطور "الديمقراطية السلمي" في ظل الماركسية اللينينة, فلينين بعد أن اقتبس مقاطعا من انجلز وماركس وصف هذه المقاطع بأنها " تفقأ عين الأوهام الانتهازية والبرجوازية الصغيرة المعتادة بصدد تطور الديمقراطية السلمي " . وكل من يظن أنه يمكن للأكثرية من العمال الفقراء أن تسيطر على مقاليد الدولة بغير ثورة عنيفة فربما يجدر به قراءة العبارة الآتية: " إن الديمقراطيين صغار البورجوازيين، أدعياء الاشتراكية هؤلاء، الذين استعاضوا عن النضال الطبقي بأحلام عن التوفيق بين الطبقات، تصوروا كذلك التحويل الاشتراكي بصورة خيالية، لا بصورة إسقاط سيادة الطبقة المستثمِرة، بل بصورة خضوع الأقلية بشكل سلمي للأكثرية المدركة لواجباتها. وهذه الطوباوية البرجوازية الصغيرة المرتبطة ارتباطا لا تنفصم عراه بالاعتراف بوجود دولة قائمة فوق الطبقات قد أفضت عمليا إلى خيانة مصالح الطبقات الكادحة ) .

مخرج:
إذن ثورة عنيفة لابد منها, فحتى لو قامت ديمقراطية حقيقية في السودان مثلا, ديمقراطية كأفضل ما يكون ولا تقل عن مثيلاتها في الدول الاسكندينافية , فهي ستظل دولة برجوازية تستبعد البروليتاريا ولا بد من ثورة عنيفة على هذه الديمقراطية . هل يتفق الشيوعيون مع لينين في هذا ؟ أم تنطبق عليهم أوصاف لينين ؟ ثم بعد الثورة العنيفة وسيطرة البروليتاريا وسحق البرجوازية _ اللذين بصراحة أنا نفسي لا أستطيع أن أحدد بدقة من هو البرجوازي الذي يجب أن يسحق بعنف ؟ بعد هذه الثورة يجب أن تقوم دولة مصممة على أن تضمحل . هل يتفق الشيوعيون كلهم مع لينين في هذا الرأي ؟ أظن الإجابة لا , ولكن في هذه الحالة يجب أيضا التخلي عن محاولة التوفيق بين لينين وأفكارهم الحالية لأن لينين نفسه قال عن محاولة التوفيق هذه بأنها خيانة للماركسية هو لا يقبلها. كونوا شجعانا وقولوا: (أفكار لينين لم تعد صالحة للاستخدام الآدمي).

Sunday, September 25, 2016

مقدمة المترجم التي ضلت طريقها الى هنا

مقدمة المترجم التي ضلت طريقها الى هنا
 
       بلا مبالغة فإنني أظنّ أنّ الحد الأدنى من الإلمام بعلوم الاقتصاد يتضمّن معرفة ولو سطحية باقتصادي عظيم مثل ميلتون فريدمان، وأضيف أنّ الأثر الذي أحدثه هذا الرجل في علم الاقتصاد يناظر تماما أثر هايزنبرج في علوم الفيزياء.
الصورة المرفقة مع هذا المقال هي غلاف ترجمة حديثة _صدرت لي _ لمحاضرة تحت عنوان ( البطالة و التضخم ) ألقاها ميلتون فريدمان في جامعة شيكاغو ضمن طقوس تسلّمه جائزة نوبل في علم الاقتصاد. وهي الترجمة العربية الأولى لهذه المحاضرة، والذي دفعني لترجمتها ليس عنوان المحاضرة فصراحة عنوانها ليس سوى مثال للتدليل على فكرة عظيمة مبثوثة بين كل صفحة و الأخرى. هذه الفكرة العظيمة ربما لم يكن فريدمان هو والدها البيولوجي ولكنه بلا ريب من تبناها منذ الصغر و رعاها و طوّرها و عرضها و سوّقها.

     إنّ مأساة علم الاقتصاد و مأساة كل علوم الاجتماع هي هي أن الكثيرين لا يتعاملون معها باعتبارها " علوما " ولا أعني هنا عامة الناس فحسب، فهذا يضم أيضا عددا غير ضئيل من الاقتصاديين و دارسي علوم الاقتصاد وأشدّ مضاضة المُطبقين للدراسات الاقتصادية. و حينما أقول أن الكثيرين لا يعتبرونها " علما " فلست أعني كلماتي حرفيا، وإنما أقصد أنّ التعامل مع علم الاقتصاد تحديدا لا يُماثل التعامل مع العلوم الطبيعية في ناحية مُحددة، وهي أنه في العلوم الطبيعية لا توجد هنالك تفضيلات مُسبقة بُناء عليها تُطوّر القوانين و القواعد، فمثلا في علم الفيزياء فإن دور الفيزيائي يتمثّل في مراقبة و رصد الظواهر الطبيعية ثم بعد ذلك يطوّر فرضية لتفسير هذه الظواهر، فرضية بامكانها التنبؤ بما سيحدث داخل إطار هذه الظواهر. فلو أنّ عالم نبات مثلا طوّر فرضية مفادها أنّ النباتات ذات الأزهار الحمراء سامة و تُسبب الوفاة، هنا لا يهم لو كان عالم النبات هذا و أنت معه عزيزي القارئ واقعان في غرام الأزهار الحمراء أو تكرهانها، فهي على كل حال تُسبب الوفاة. ولا سبيل لرفض هذه الفرضية إلا لو أنّ تنبؤاتها ناقضت الواقع.

    ولكن الحال يختلف في علم الاقتصاد مثلا، فالبعض مثلا له إيمان مسبق لا يتزحزح بالاشتراكية على سبيل المثال، وهم يرون حقا أنها خير سبيل لإنهاء آلام البشرية وهم حقأ يريدون الخير للجميع، هنا فإنهم يبدؤون من هذه النقطة، يبدؤون من هذا الإيمان المسبق ثم ينطلقون نحو تطوير فرضيات و نظريات وإجراءات اقتصادية كثيرة لأجل إنزال إيمانهم هذا على أرض الواقع. ما سيحدث هنا ليس علما اقتصاديا وليس علما من أساسه. خذ عندك مثالا أكثر بساطة وقد ضربه ميلتون فريدمان نفسه بصيغة مختلفة في مكان آخر غير هذه المحاضرة، وهو مثال ( الحد الأدنى للأجور )، ربما يرى البعض أنّ أجور العاملين في السودان مثلا بصورة عامة منخفضة جدا وبالكاد تكفيهم، فيرق قلبه لهم و يقرر أن يُصلح أحوالهم عبر وضع تشريع قانوني يضمن أن الحد الأدنى من الأجحور كافٍ لمجابهة أعباء المعيشة. هنا النية فعلا سليمة ولكن هل حقا وضع تشريع بهذه الصورة سيضمن تحسناً في معيشة الناس؟. صحيح أن الأجور سترتفع ولكن هل هذا يعني أنّ المعيشة ستتحسن ؟. هنا يأتي دور علم الاقتصاد الموضوعي، علم الاقتصاد الذي لا فرق بينه و بين علم الفيزياء إلا ذلك الفرق بين علم الفيزياء و الكيمياء مثلا. 

     صورة الغلاف التي تراها تقع بين جنباتها صفحات قلائل يشرح فيها فريدمان هذه الفكرة عبر مثال البطالة و التضخم، ربما كانت مادة المحاضرة نفسها عصيّة بعض الشيء على غير المعتادين على المواضيع الاقتصادية وذلك في المقام الأوّل لكثرة المصطلحات الاقتصادية، فمحاضرته هذه لم تكن أمام الجمهور و إنما في أحدى قاعات جامعة شيكاغو أمام رهط من علماء و دارسي علم الاقتصاد ولذا لا تثريب عليه. ولكن إذ أنني أقدم النص العربي للجمهور كآفة فقد أعطيت لنفسي الحق أنّ أزين الهوامش أو أشينها بشروح كثيرة لمتن المحاضرة. ربما يجد القارئ غير المتخصص هذه الشروح مفيّدة فيستحسنها وربما يراها القارئ المتخصص غير ذلك فيستهجنها وله العتبى إذن. أمّا عن كيف أخترت ( ماذا أشرح أو لا أشرح ) فقد كانت طريقتي بكل بساطة كالآتي: كلّما انتهيت من ترجمة فقرة فإنني أقرأها على أحدهم من غير دارسي الاقتصاد فلو كانت واضحة بالنسبة له فبها ونعمت. وإن غامضة ذهبتُ الى الهامش وشرحتُ ما غمُض عليه. 

     هذه الترجمة معنيّ لها أن تكون الأولى ضمن سلسلة ترجمات اقتصادية، فأرجو يوما أن يفيد أحدهم من إحداها.