Sunday, September 25, 2016

مقدمة المترجم التي ضلت طريقها الى هنا

مقدمة المترجم التي ضلت طريقها الى هنا
 
       بلا مبالغة فإنني أظنّ أنّ الحد الأدنى من الإلمام بعلوم الاقتصاد يتضمّن معرفة ولو سطحية باقتصادي عظيم مثل ميلتون فريدمان، وأضيف أنّ الأثر الذي أحدثه هذا الرجل في علم الاقتصاد يناظر تماما أثر هايزنبرج في علوم الفيزياء.
الصورة المرفقة مع هذا المقال هي غلاف ترجمة حديثة _صدرت لي _ لمحاضرة تحت عنوان ( البطالة و التضخم ) ألقاها ميلتون فريدمان في جامعة شيكاغو ضمن طقوس تسلّمه جائزة نوبل في علم الاقتصاد. وهي الترجمة العربية الأولى لهذه المحاضرة، والذي دفعني لترجمتها ليس عنوان المحاضرة فصراحة عنوانها ليس سوى مثال للتدليل على فكرة عظيمة مبثوثة بين كل صفحة و الأخرى. هذه الفكرة العظيمة ربما لم يكن فريدمان هو والدها البيولوجي ولكنه بلا ريب من تبناها منذ الصغر و رعاها و طوّرها و عرضها و سوّقها.

     إنّ مأساة علم الاقتصاد و مأساة كل علوم الاجتماع هي هي أن الكثيرين لا يتعاملون معها باعتبارها " علوما " ولا أعني هنا عامة الناس فحسب، فهذا يضم أيضا عددا غير ضئيل من الاقتصاديين و دارسي علوم الاقتصاد وأشدّ مضاضة المُطبقين للدراسات الاقتصادية. و حينما أقول أن الكثيرين لا يعتبرونها " علما " فلست أعني كلماتي حرفيا، وإنما أقصد أنّ التعامل مع علم الاقتصاد تحديدا لا يُماثل التعامل مع العلوم الطبيعية في ناحية مُحددة، وهي أنه في العلوم الطبيعية لا توجد هنالك تفضيلات مُسبقة بُناء عليها تُطوّر القوانين و القواعد، فمثلا في علم الفيزياء فإن دور الفيزيائي يتمثّل في مراقبة و رصد الظواهر الطبيعية ثم بعد ذلك يطوّر فرضية لتفسير هذه الظواهر، فرضية بامكانها التنبؤ بما سيحدث داخل إطار هذه الظواهر. فلو أنّ عالم نبات مثلا طوّر فرضية مفادها أنّ النباتات ذات الأزهار الحمراء سامة و تُسبب الوفاة، هنا لا يهم لو كان عالم النبات هذا و أنت معه عزيزي القارئ واقعان في غرام الأزهار الحمراء أو تكرهانها، فهي على كل حال تُسبب الوفاة. ولا سبيل لرفض هذه الفرضية إلا لو أنّ تنبؤاتها ناقضت الواقع.

    ولكن الحال يختلف في علم الاقتصاد مثلا، فالبعض مثلا له إيمان مسبق لا يتزحزح بالاشتراكية على سبيل المثال، وهم يرون حقا أنها خير سبيل لإنهاء آلام البشرية وهم حقأ يريدون الخير للجميع، هنا فإنهم يبدؤون من هذه النقطة، يبدؤون من هذا الإيمان المسبق ثم ينطلقون نحو تطوير فرضيات و نظريات وإجراءات اقتصادية كثيرة لأجل إنزال إيمانهم هذا على أرض الواقع. ما سيحدث هنا ليس علما اقتصاديا وليس علما من أساسه. خذ عندك مثالا أكثر بساطة وقد ضربه ميلتون فريدمان نفسه بصيغة مختلفة في مكان آخر غير هذه المحاضرة، وهو مثال ( الحد الأدنى للأجور )، ربما يرى البعض أنّ أجور العاملين في السودان مثلا بصورة عامة منخفضة جدا وبالكاد تكفيهم، فيرق قلبه لهم و يقرر أن يُصلح أحوالهم عبر وضع تشريع قانوني يضمن أن الحد الأدنى من الأجحور كافٍ لمجابهة أعباء المعيشة. هنا النية فعلا سليمة ولكن هل حقا وضع تشريع بهذه الصورة سيضمن تحسناً في معيشة الناس؟. صحيح أن الأجور سترتفع ولكن هل هذا يعني أنّ المعيشة ستتحسن ؟. هنا يأتي دور علم الاقتصاد الموضوعي، علم الاقتصاد الذي لا فرق بينه و بين علم الفيزياء إلا ذلك الفرق بين علم الفيزياء و الكيمياء مثلا. 

     صورة الغلاف التي تراها تقع بين جنباتها صفحات قلائل يشرح فيها فريدمان هذه الفكرة عبر مثال البطالة و التضخم، ربما كانت مادة المحاضرة نفسها عصيّة بعض الشيء على غير المعتادين على المواضيع الاقتصادية وذلك في المقام الأوّل لكثرة المصطلحات الاقتصادية، فمحاضرته هذه لم تكن أمام الجمهور و إنما في أحدى قاعات جامعة شيكاغو أمام رهط من علماء و دارسي علم الاقتصاد ولذا لا تثريب عليه. ولكن إذ أنني أقدم النص العربي للجمهور كآفة فقد أعطيت لنفسي الحق أنّ أزين الهوامش أو أشينها بشروح كثيرة لمتن المحاضرة. ربما يجد القارئ غير المتخصص هذه الشروح مفيّدة فيستحسنها وربما يراها القارئ المتخصص غير ذلك فيستهجنها وله العتبى إذن. أمّا عن كيف أخترت ( ماذا أشرح أو لا أشرح ) فقد كانت طريقتي بكل بساطة كالآتي: كلّما انتهيت من ترجمة فقرة فإنني أقرأها على أحدهم من غير دارسي الاقتصاد فلو كانت واضحة بالنسبة له فبها ونعمت. وإن غامضة ذهبتُ الى الهامش وشرحتُ ما غمُض عليه. 

     هذه الترجمة معنيّ لها أن تكون الأولى ضمن سلسلة ترجمات اقتصادية، فأرجو يوما أن يفيد أحدهم من إحداها.

No comments:

Post a Comment